مقدمة
في سياق عربي مشحون بالتحولات السياسية والتشظي الثقافي وغياب الروى الجماعية، تتجلي الحاجة إلى نماذج فكرية قادرة على تجاوز النمط التقليدي للمثقف المرتبط إما بالسلطة أو بالتنظير المنعزل. وفي هذا الإطار، تطرح رواية (شآبيب) لأحمد خالد توفيق شخصية "مكرم ميخائيل" كمثال روائي لما يمكن تسميته بـ (المثقف المؤسس). هذا المقال يسعى إلى تحليل شخصية مكرم بوصفها تجسيداً لرؤية بديلة عن المثقف العربي، رؤية تؤمن بالفعل السياسي الرمزي، وتستند إلى جذورها في الواقع وتطمح إلى تغييره لا إلى الاكتفاء بوصفه أو الحداد عليه.
السياق الذي ظهر فيه المثقف طبقاً للرواية
يشهد السياق العربي المعاصر أزمات في الفضاء العام، تأكل السيادة الوطنية، وغياب المشاريع الجماعية المتماسكة، مما يبرز القيمة الإلهامية لشخصية مكرم ميخائيل. إن تهميش المثقفين قد أعاق تطوير رؤى بديلة للمجتمعات العربية. يواجه مكرم هذا الاتجاه من خلال تجسيد المثقف الاستراتيجي الذي يدرك أهمية المكان والهوية في إعادة تعريف الهوية العربية.
تعمل شخصيته بعدة مستويات، بدءاً من الدعوة إلى تفاعل المثقفين مع الواقع الملموس. من خلال اقتراح رؤية كبرى تتجاوز الشكوى أو الاستسلام، يتحدى مكرم الاتجاهات المهيمنة السائدة في الخطاب الفكري العربي. تشير شخصيته إلى "المثقف المؤسس" الذي يسعى لإعادة البناء وإعادة التصور بدلاً من التحليل فقط، مقدماً نموذجاً للمثقفين الذين يواجهون تعقيدات العالم العربي الحديث.
المثقف في نظر جرامشي وإدوارد سعيد
جرامشي: المثقف العضوي
في كتاب (كراسات السجن)، يقدم أنطونيو جرامشي إطاراً نظرياً لفهم مكرم ميخائيل كمثقف عضوي، وهو الشخص الذي ينشأ من حركة اجتماعية أو سياسية ويخدمها. على عكس المثقف التقليدي المحصور في الأوساط الأكاديمية أو النخبوية، يعبر المثقف العضوي عن رؤية جماعية ويعمل على تحقيقها.
تتجلى هذه الصفة في مكرم من خلال سعيه المعماري لبناء وطن قومي عربي موحد، حيث تعكس تصاميمه رمزية ووظيفية تهدف إلى تعزيز التماسك الثقافي والسياسي. يتماشى نقده للواقع السياسي والمكاني العربي المنقسم مع تركيز جرامشي على دور المثقف في تحدي الهياكل المهيمنة.
تبرز جهود مكرم لتطبيق رؤيته من خلال التخطيط والدعوة التطبيقية، مما يميزه عن المثقفين الذين يكتفون بالنقد دون تقديم حلول، ويجعله شخصية تحويلية تجسد دور المثقف العضوي في تعزيز الوعي والفعل الجماعي.
إدوارد سعيد: المثقف الناقد
يوفر كتاب إدوارد سعيد (المثقف والسلطة) إطاراً إضافياً لفهم دور مكرم كناقد يتحدى السلطة ويرفض الخضوع للأيديولوجيات السائدة. في السياق العربي، حيث يواجه المثقفون غالباً التهميش أو التدجين من قبل الأنظمة السلطوية، يبرز رفض مكرم للروايات السياسية كموقف ملهم.
رؤيته لوطن عربي موحد تتحدى الوضع الراهن، ناقدة التشرذم والانقسام الذي يميز المشهد الاجتماعي-السياسي العربي. من خلال استخدامه للخبرة المعمارية، يستخدم مكرم أدوات تحليلية ومعرفية للتأثير في الفضاء العام، متماشياً مع رؤية سعيد للمثقف كشخصية كونية تلهم التغيير.
يبرز تركيز مكرم على المكان والهوية كوسائط لإعادة تصور الهوية العربية، في نهجه الاستراتيجي، مواجهاً بذلك الحاجة إلى قيادة ذات رؤية في العالم العربي.
مكرم ميخائيل: من التنظير إلى التأسيس
في الرواية، لا يظهر مكرم بوصفه مثقفاً تقليدياً منخرطاً في سجالات أكاديمية، بل يقدم كصاحب مشروع جذري يسعى إلى تأسيس وطن بديل للعرب في منطقة جغرافية خارج حدود الخرائط السياسية الحالية. هذه النزعة التأسيسية تجعله يقترب مما يمكن وصفه بـ (المثقف الذي ينتج نموذجاً خاصاً بمجتمعه ينبع من خصوصياته)، وليس فقط ناقداً للأسس القائمة.
فمكرم لا يكتفي بتحليل مظاهر التهميش العربي أو الهشاشة البنيوية، بل يخطو خطوة إلى الأمام، مقترحاً حلاً تخيلياً يتجاوز الدولة الوطنية بصيغتها الفاشلة، ويتصدى لتحدي "اللامكان" الذي تعاني منه الشخصية العربية في الرواية.
الطرح هنا لا ينفصل عن المفهوم الجرامشي للمثقف العضوي، الذي لا يُعرف بوصفه متخصصاً أكاديمياً بل فاعلاً استراتيجياً منخرطاً في الصراع الطبقي أو الحضاري. مكرم يرتبط عضوياً بالواقع العربي رغم اغترابه عنه، ويخوض معركته من خلال مشروع يجمع بين المعرفة والفعل، التخيل والاشتباك، متجاوزاً بذلك "المثقف التقليدي" الذي تحدث عنه جرامشي.
المثقف كصوت بديل: بناء خطاب معادل
ما يميز مكرم أيضاً هو قدرته على بناء خطاب بديل، لا يقتصر على نقد الخطاب السائد. هذه الوظيفة التي تعد إحدى الوظائف الجوهرية للمثقف، حيث تجد تجسيدها في مشروعه التخيلي الذي ليس مجرد حلم طوباوي، بل رؤية مادية تتأسس على فهم عميق لمشكلات الواقع العربي: الثقافة، العجز السياسي، غياب المشروع الحضاري.
إن مكرم يقدم، من خلال خطابه، تصوراً للعلاقة بين المكان والهوية، وبين السياسة والانتماء، وهي قضايا لطالما تم تطبيعها في خطاب الأنظمة. وللإشارة، فإن مكرم، بوصفه مثقفاً، لا يتحدث من موقع سلطوي ولا من منبر وعظي، بل يسعى إلى "إنتاج خطاب يتجاوز النخبوية والتسطيح معاً". إنه يؤمن بالجماهير، لا كتلة جاهلة، بل كفاعل محتمل قادر على المشاركة في بناء مشروع سياسي بديل، وهنا تكمن وظيفته التحويلية.
علاقته بالسلطة
إن العلاقة بين المثقف والسلطة لا يجب أن تختزل في ثنائية الولاء أو العداء، بل في (مساءلة دائمة تنطلق من موقع مستقل لا يقبل الاحتواء). مكرم ينسحب منذ البداية من أي مؤسسات قائمة، ويرفض خطاب الدولة القومية، أو الأيديولوجيات السلطوية التي تكرس الإقصاء والاستلاب.
ومع ذلك، لا يكتفي بالانسحاب، بل يبادر إلى خلق بنية تخيلية بديلة تمثل فعلياً محاولة لإعادة تعريف السيادة والانتماء من خارج منطق الدولة الراهنة. هذا التوتر بين الاستقلال والمشاركة هو ما يعطي لمكرم بعده السياسي الحقيقي، فهو لا يهرب من الصراع، بل يعيد تعريف شروطه.
المشروع التأسيسي للمثقف
يشكل البعد المكاني في المشروع التأسيسي أحد أهم العناصر الرمزية التي يمكن قراءتها في ضوء التخيل السياسي البديل، إذ إن اقتراحه لوطن قومي للعرب لا يفهم فقط كحل جغرافي تقني لمشكلة الشتات أو التهميش، بل كمحاولة لتفكيك البنية الرمزية للفضاء العربي التي فرضت عبر الاستعمار وإعادة إنتاجها في سياقات الدولة الوطنية.
في هذا السياق، يتجاوز المكان المعنى الطبيعي ليغدو أداة للمقاومة الرمزية، وتتحول الخرائط من حدود استعمارية إلى إمكانيات تخيلية تعيد تعريف الانتماء والهوية والسيادة. إن ما يفعله المثقف في هذا الإطار هو تفكيك طابع "الطبيعي" في الجغرافيا السياسية للعرب، واقتراح شكل جديد للانتماء لا يبنى على الموروث السياسي بل على الرؤية الأخلاقية والرمزية.
وتتعمق هذه الوظيفة التخيلية لمكرم حين نعيد النظر فيه بوصفه ليس فقط فاعلاً استراتيجياً، بل متخيلاً سياسياً Political Imaginer كما يصوّره تشارلز تايلور وغيره من فلاسفة السياسة. إن مكرم لا يكتفي بإدارة الواقع أو نقده، بل يسعى إلى إعادة توزيع الممكن، أي خلق فضاء تخيلي يتحدى منطق الهيمنة القائم، ويقترح سردية بديلة لا تستمد مشروعيتها من التاريخ الرسمي أو الدولة، بل من الذاكرة المهمشة والطاقة المتخيلة للهوية الجماعية.
من هنا، لا يصبح فعله مجرد مشروع هندسي لدولة بديلة، بل فعلاً تخيلياً يعيد تركيب العلاقة بين الأفراد والمجتمع والسيادة.
هذا التحليل السياسي لا يمكن فصله عن السياق ما بعد الكولونيالي الذي تتكون فيه شخصية مكرم، إذ إن أزمة الهوية والانتماء التي يعالجها هي في جوهرها تجليات متأخرة لتفكك المشاريع الكبرى التي روج لها في ظل الدولة الوطنية. من هنا، يمكن فهم مكرم كاستجابة نقدية لفشل الدولة العربية الحديثة، التي لم تحقق سيادة حقيقية ولا عدالة اجتماعية ولا مشروعاً جماعياً جامعاً.
لكن ما يلفت النظر أن هذا المشروع الطموح يبدو في لحظات كثيرة وكأنه ينسحب من حقل الدين تماماً، دون موقف حاد أو صريح. يغيب الدين في خطاب مكرم غياباً ملفتاً، وكان مشروعه يحاول أن يبقى على حياد رمزي أو يتجنب الاشتباك مع التراث الديني كلياً.
هذا الغياب قد يفهم كاستراتيجية لتحرير الفكرة من التوظيف السياسي المعتاد للدين، لكنه يطرح تساؤلات حول إمكانية تأسيس خطاب تحريري عربي دون مفاوضة جادة مع البعد الديني. الدين كـ "نص مفتوح على التأويل"، إن غياب هذا الاشتباك من قبل مكرم يمكن أن يعد نقطة ضعف أو على الأقل نقصاً في رؤيته الكلية، إذ لا يكفي كتم الصوت الديني لتجنب صراعاته الرمزية.
بل إن تأسيس خطاب ثقافي مقاوم يحتاج إلى مقاربة تفكيكية للدين تكشف عن وظيفته الرمزية والتاريخية، كما فعل أركون أو نصر حامد أبو زيد في مشروعاتهم الفكرية.
كما أن الموقف من الدين ليس هو الغائب الوحيد في خطاب مكرم، فالبعد الجندري يبدو مستبعداً تماماً من مشروعه، سواء على مستوى التمثيل أو الخطاب أو حتى الرؤية. لا تظهر في مشروعه أي معالم لتمكين النساء، أو تصور خاص لدورهن في بناء المجتمع البديل، بل تبقى الشخصيات النسوية إما خارج المعادلة أو في مواقع تابعة.
والاستثناء الوحيد لعملية تمكين أحد السيدات كان من باب المصادفة وليس التخطيط المسبق. هذا الغياب ليس محايداً، بل يعكس استمراراً ضمنياً لنمط التفكير الذكوري الذي انتقدته الأنظمة العربية التي يدعي المشروع التمرد عليها. فمشروع تحرري لا يشتبك مع أسئلة النوع الاجتماعي، يظل ناقصاً مهما بدا طموحاً، لأنه يعيد إنتاج الاستبعاد وإن كان بصيغة جديدة.
كل هذا يدفعنا إلى تأمل الطابع الطوباوي في مشروع مكرم، الذي رغم ما يحمله من جرأة وجذرية، قد يبدو في كثير من تفاصيله غير قابل للتطبيق أو الاستمرار. هل يمكن حقاً إنشاء وطن من العدم؟ هل يمكن كسر البنية الدولية والمحلية بهذا الفعل الخيالي وحده؟
إن هذه الأسئلة لا تقلل من أهمية المشروع، لكنها تضعه في مواجهة تحد نقدي حول حدود الخيال السياسي. ربما يكون مكرم واعياً بطوباويته، وربما تمثل الطوباوية في حالته شكلاً من أشكال المقاومة الزمنية القصوى، لكنها تظل تطرح مأزقاً: ما بين التخييل والتطبيق، ما بين الهروب والمواجهة، ما بين الحلم والواقع.
خاتمة: مكرم بوصفه إمكاناً
تجسد شخصية مكرم ميخائيل في "شآبيب" ما يمكن تسميته بـ (الإمكان الغائب) في الثقافة السياسية العربية: المثقف الذي لا يرضى بالتماهي مع خطاب النخب أو البطولة، بل ينشئ سرديته الخاصة من موقع هامشي، ويمتلك الجرأة على اقتراح حلول جذرية تتحدى المفهوم التقليدي للسيادة والهوية.
إن أهمية هذه الشخصية لا تكمن فقط فيما تقدمه داخل الرواية، بل فيما تفتحه من أفق نظري يمكن الاشتباك معه لبناء نموذج عربي جديد للمثقف. إننا في حاجة إلى "مكرم ميخائيل" ليس كشخص، بل كوظيفة، كضمير معرفي، وكقوة تغييرية تفتح المجال لمستقبل لا تصوغه النخبة ولا الدولة، بل يصوغه المثقف القادر على مساءلة الحاضر، وإعادة بناء المعنى من رماده.
المراجع
- أحمد خالد توفيق، "شأنيب"، مصر: دار الشروق، 2018.
- إدوارد سعيد، "المثقف والسلطة"، ترجمة: محمد عباني، المملكة المتحدة: مؤسسة هنداوي، 2022.
- أنطونيو جرامشي، "كراسات السجن"، ترجمة: عادل غنيم، مصر: دار المستقبل العربي، 1994.
- جوليان بندا، "خيانة المثقفين"، ترجمة: محمد صابر، الجزائر: ابن النديم للنشر والتوزيع، 2020.
Leave a Comment