مقدمة:

تُعدّ العلاقات الإنسانية، بمختلف أشكالها ومستوياتها، عرضة للتقلبات بين الصعود والهبوط، ويُعزى جزء كبير من التوتر أو الانهيار في هذه العلاقات إلى عوائق في عملية التواصل. فقد تكون هذه العوائق لغوية ناجمة عن الغموض في اللغة المستخدمة، أو ناتجة عن قناة التواصل، أو مرتبطة بطريقة التعبير. ومهما كان شكلها، فإن لهذه العوائق أثرًا بالغًا في مدى استمرارية العلاقات أو انهيارها.

وبما أن العلاقات الدولية والسياسات الخارجية لا تُدار إلا من خلال فرد أو أفراد أو مجموعات تعبّر عن مواقف الدول، فإن عوائق التواصل التي تؤثر على تفاعلات الأفراد قد تنسحب بدورها على التفاعلات بين الدول. وبالتالي فإن فهم طبيعة هذه العوائق وأثرها يصبح أمرًا ضروريًا لتحليل التفاعلات الدولية، والتنبؤ بمستقبل العلاقات بين الدول، إلى جانب عوامل أخرى سياسية واقتصادية وثقافية.

أنواع عوائق التواصل:

العوائق اللغوية:

وتتعدد هذه العوائق سواءٌ كانت بسبب غموض الكلمات المستعملة وحملها لأكثر من معنى أو الغلط في ترجمتها إذا تم الاعتماد على وسيط في ذلك، وتُعتبر الفوارق اللغوية بين دول العالم من أبرز عوائق التواصل في العلاقات الدولية، إذ تؤدي اختلافات اللغات الرسمية إلى سوء تقدير المواقف وأحيانا الاعتماد على لغات وسيطة أو مترجمين. فإن اللغة تلعب دوراً مزدوجاً كميسّر ومعيق للتفاهم الدولي، وأن العوائق اللغوية تُعيق التفاعلات على جميع المستويات سواء في الحياة اليومية أو في التفاعلات الدبلوماسية. كما أشار تقرير لمنظمة تشاتام هاوس إلى أن الفروقات الثقافية واللغوية بين الدول غالباً ما يُغفلها الفاعلون، وأن مفردات أو مفاهيم سائدة في لغة معينة قد لا توجد لها نظير مباشر في لغة أخرى، ما يُضفي على الرسائل طابعاً غامضاً ويُثير الالتباس[^1].

وتتسم اللغة بطبيعتها بقدر من الغموض اللغوي؛ فالكلمات شائعة الاستخدام كثيراً ما تكون ذات دلالات متعددة، مما يزيد احتمالات التباس الرسالة. وقد وجد باحثو تواصل التحالفات العسكرية أن خاصية تعدد المعاني والكلمات ذات الدلالات المتشابهة في لغة واحدة قد تكون السبب في فشل التواصل بين الشركاء. فعلى سبيل المثال، قد تحمل كلمة واحدة أكثر من مدلول (polysemy) حسب السياق؛ وهذا ما يؤدي إلى تأويلات مختلفة للعبارة الواحدة[^2].

ولا يقتصر العائق اللغوي على اختلاف اللغات فحسب، بل يشمل أيضاً تباين اللهجات والتعبيرات المحلية حتى بين متحدثي لغة واحدة. ففي الواقع، قد تحدث فجوات في الفهم رغم اشتراك الدول أو الشعوب بلغة مشتركة. فقد لوحظ، مثلاً، وجود اختلافات كبيرة بين اللهجتين الأمريكية والبريطانية في اللغة الإنجليزية بحيث أن نفس اللفظ قد يحمل معنى مختلف في كل منهما[^3].

إن هذه التضاربات في الدلالة اللغوية قد تؤدي إلى تفسيرات خاطئة للرسائل الدبلوماسية، حتى مع وجود قنوات تواصل رسمية. فقد وثّق الباحثون أن سوء فهم كلمة واحدة يمكن أن يطلق تأثير الفراشة[^4] في التفاوض الدولي، حيث تتسع دائرة الالتباسات من خطأ بسيط في الترجمة إلى أزمة في التواصل بين الدول. كما حذّروا من أن فقدان العبارات الاصطلاحية أو الإشارات الثقافية أثناء الترجمة وعدم توضيحها يزيد من احتمال وقوع النزاعات الناجمة عن لبس المعنى[^5].

من هذا المنطلق، تؤكد الأدبيات الأكاديمية على أهمية التدقيق في صياغة العبارات الدبلوماسية، والتأكد من وضوح المعنى المتبادل بين المتفاوضين. فلا يكفي في كثير من الأحيان أن يتشارك الطرفان لغة واحدة؛ بل يجب أن يعيرا اهتماماً خاصاً لاختلاف اللهجات والأساليب التعبيرية والثقافات الفرعية التي يمكن أن تحوّل العبارة الواحدة إلى أكثر من تفسير. إن إدراك هذه الفروق وتحري الدقة في استخدام الكلمات يظل أساسياً في تفادي العوائق اللغوية وبناء جسور تفاهم مستقرة في العلاقات الدولية.

العوائق النفسية والشخصية:

وتؤدي هذه العوائق وينتج عنها سوء في طريقة التعبير عن الخطابات حتى إذا كان الخطاب نفسه يحمل كلمات هادئة وغير عدائية فقد تؤدي طريقة التعبير الخاطئة الناتجة عن الصفات الشخصية إلى سوء فهم للخطاب، وهذه ليست الطريقة الوحيدة التي يؤثر بها هذا العائق فأحيانًا يؤدي استخدام أسلوب رخو وهادئ في خطاب تحفيزي، أو إعلان حرب، أو تهديد إلى إيصال رسالة مغايرة، أو إبداء خطاب استسلام بطريقة انفعالية وعدائية يؤدي إلى تحميل الخطاب رسائل مُبطنة ليست موجودة فيه[^6].

وتشمل أيضًا العوائق النفسية للتواصل في العلاقات الدولية العمليات الذهنية والانفعالية التي تحجب الفهم الموضوعي لرسائل الطرف الآخر. ومن أبرز هذه العوائق التحيّزات الإدراكية (Cognitive Biases) التي تدفع الأفراد إلى تفسير سلوك الآخرين من خلال قوالب ذهنية جاهزة، سواء نتيجة لتجارب سابقة أو تأثرًا بصور نمطية اجتماعية أو سياسية. فعلى سبيل المثال، إذا نشأ أحد الفاعلين السياسيين في بيئة تتبنى رواية سلبية عن دولة أخرى، فقد يفسّر أي مبادرة دبلوماسية منها على أنها ذات نوايا خفية أو عدائية، حتى وإن كانت في ظاهرها بنّاءة. وقد أوضح الباحثون في علم النفس السياسي أن المعتقدات السابقة والافتراضات الأيديولوجية تخلق تشوّشًا إدراكيًا يجعل من الصعب استقبال الرسائل الخارجية بموضوعية[^7].

إضافةً إلى ذلك، تؤدي الصور النمطية إلى تجريد الطرف الآخر من خصوصيته وسياقه الفردي. فعندما يُنظر إلى مفاوض ما على أنه "يمثل ثقافة عدوانية" أو "عقلية استعمارية"، يصبح كل ما يقوله خاضعًا لتأويل مسبق يضاعف التوتر ويعيق التواصل الفعّال. كذلك، تُعدّ مشاعر الخوف وانعدام الثقة من أبرز الحواجز النفسية؛ فالدبلوماسي الذي يشك في نوايا الطرف الآخر سيفسّر أي غموض أو تردد على أنه مؤشر تهديد، مما يزيد الحذر ويقلل من احتمالية الانفتاح[^8].

أما على المستوى الشخصي، فإن السمات الفردية مثل العدوانية، التسرع، الخجل، أو الحساسية الزائدة يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في إعاقة التواصل. فالشخص العدواني قد يفرض أسلوبًا تهديديًا في الحوار يثير دفاعية الطرف الآخر، في حين يميل الشخص الخجول إلى الغموض والتردد في التعبير، مما يسبب سوء فهم أو يوحي بعدم الاهتمام. كذلك، فإن الحساسية الزائدة قد تجعل المتحدث يستشعر الإهانة في تعبير بريء، مما يضفي طابعًا دراميًا على التفاعل. وترتبط هذه السمات والسلوكيات بسياقات ثقافية أعمق؛ فالفرد لا يتواصل من فراغ بل من داخل بنية ثقافية وقيمية تُشكّل طريقته في تفسير الرسائل وإرسالها[^9].

العوائق التقنية والإعلامية:

يعد هذا النوع من العوائق من أهم الأنواع لأنه يعتبر قناة التواصل بين الفاعلين الدوليين كما يعبر عن شكل الدولة أو الدولة الأخرى للشعب داخليًا وللشعوب الأخرى خارجيًا، تُعَدّ الوسائل التقنية الحديثة (كالإنترنت والبريد الإلكتروني والمنصّات الرقمية) القنوات الرئيسة للتواصل بين الفاعلين الدوليين. إلا أن فاعلية هذه الوسائل لا تخلو من معوّقات؛ فقد أشارت دراسات إلى أن الرقابة الحكومية وقيود الإنترنت والفجوة الرقمية في إمكانيات الوصول إلى التكنولوجيا والتحيّز الإعلامي تعدّ من أبرز العوائق التي تعترض تدفُّق المعلومات. فعلى سبيل المثال، ما زالت نسبة كبيرة من سكان العالم في دول نامية تفتقر إلى بنية تحتية رقمية كافية؛ إذ تعاني شبكات الاتصالات في تلك البلدان من ضعف يحول دون وصولهم إلى التكنولوجيا الحديثة. وعلاوةً على ذلك، تشكّل الهجمات الإلكترونيّة تهديداً إضافياً لقدرة الدول والفاعلين على التواصل؛ فعمليات الاختراق قد تُهدّد أمن البيانات وقد تقوم باختراق قنوات إعلامية وتحريف رسائلها وحتى قمع التغطية الإخبارية المهمة، مما ينعكس سلباً على مصداقية المعلومات المتبادلة. وفي ظل هذه المشكلات التقنية، تزداد صعوبة إيصال الأخبار الدقيقة في وقتها، خاصة حين تعاني شبكات الاتصال من أعطالٍ متكررة أو انقطاعٍ كهربي، فتتأخر الرسائل العاجلة وينحسر أثرها الدوليين[^10].

في المقابل، يلعب الإعلام التقليدي والرقمي دوراً محورياً في تشكيل الرسائل الدولية وتوجيهها. فالإعلام التقليدي (التلفاز والصحافة) غالباً ما يعكس أجندة الممولين أو الحكومة، ما يؤدي إلى تحيّز محتواه السياسي أو التجاري. وقد أوضحت التحليلات أن سيطرة هذه الأجندات على وسائل الإعلام تجعلها تُفضّل توليد الإيرادات على الموثوقية، بحيث يشكّل التأثير السياسي والشركاتي سرداً منحازاً يضلل الرأي العام. أما الإعلام الرقمي (وسائل التواصل الاجتماعي) فقد وفّر منبرا فاعلا لنشر الأخبار بسرعة، لكنه سهّل أيضاً انتشار الشائعات والمعلومات المضللة. فسهولة الوصول إلى الأخبار عبر هذه المنصّات وسرعة تداولها تجعل السيطرة على المعلومة الكاذبة أمراً بالغ الصعوبة، وتعمل خوارزميات التوصية على تعزيز المحتوى المثير عاطفياً أو جدلياً. ونتيجة ذلك، قد تضخّم هذه المنصّات الرسائل المتطرفة أو الملفّقة على حساب الروايات الدقيقة أو المحايدة، مما يشوّه الصورة الموضوعية للفاعلين ويعرقل بناء حوار دولي قائم على الحقائق.

تضافرت في هذه البيئة عوامل أخرى. فمن جهة الحكومة، تحاول بعض الدول ضبط قنوات المعلومات عبر ما يشبه الحجب الممنهج أو رقابة الإعلام الرسمي؛ فعند وقوع أزمات أو فرض حالة طوارئ، قد تفرض الدولة قيوداً على الأخبار المحلية فيصبح الإعلام ملتزماً بإعادة نشر التصريحات الرسمية فقط، وهو ما يرسخ سرداً موحّداً يصعب دحضه داخلياً أو خارجياً. وقد أكدت التقارير أن هذا النمط من الرقابة يعزّز الصورة النمطية المتبادلة بين الدول المتنازعة، بحيث يرى كل طرف الآخر "عدواً" لا بدّ من مواجهته. ومن جهة أخرى، تظل الخوارزميات الرقمية خارج نطاق الرقابة التقليدية، لكنها تؤثر في مسارات المعلومات. فهي تفضل إبراز المحتوى الشائع مثلاً؛ وقد بينت الدراسات أن المنشورات الداعمة للحكومات أو لمصالح معينة تنتشر عبر الشبكات بوتيرة أكبر من الأخبار المستقلة. وبهذه الطريقة، تستطيع رسائل ضارة بتشويه صورة دولة أو فاعل أن تنتشر في الفضاء الرقمي بسرعة فائقة حتى تبدو كأنها الحقيقة، فيما تبقى الأدلة المضادة في الظل.

ختاماً، تؤكد هذه الوقائع أن العوائق التقنية والإعلامية تشكّل عقبة حقيقية أمام التواصل الدولي؛ فهي لا تعيق فقط انسياب الرسائل بين الدول، بل تمكّن أيضاً من تشويهها. فالانقطاعات التقنية تحرم الدول من تبادل البيانات، فيما تسمح الأطر الإعلامية الموجهة وخوارزميات التصفية بنشر معلومات منحازة أو كاذبة بسرعة. ومن ثمّ بات لزاماً على الفاعلين الدوليين الانتباه لهذه العقبات والتعاون على تجاوزها بتعزيز الشفافية الإعلامية وتطوير الحلول التقنية، واستحداث آليات تحقق فعّالة للتفريق بين الرسائل الواردة[^11].

طبيعة عوائق التواصل في القرن العشرين والوقت الحالي:

على الرغم من أن القرن العشرين شهد طفرة كبيرة في وسائل الاتصال (التلغراف، الراديو، الأقمار الصناعية)، فإن التحوّل الرقمي اللاحق أظهر فجوات جديدة. فالتقارير الدولية تسلط الضوء على اتساع الفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية؛ ففي عام 2022 مثلاً لم يكن حوالي ثلث سكان العالم (ما يعادل 2.7 مليار شخص) متصلين بالإنترنت مطلقاً، ونحو 53% من سكان العالم يفتقرون إلى إنترنت واسع النطاق. كما أن نسبة النفاذ إلى الإنترنت تتجاوز 80-89% في أوروبا والأمريكيتين، لكنها لم تتجاوز 40% في أفريقيا. إن هذا التفاوت في البنى التحتية والتقنيات يخلق حواجز كبيرة أمام تبادل المعلومات الدولي، إذ تعجز الدول الأقل نمواً عن مواكبة وتيرة التواصل العالمي وتواجه قيوداً تقنية تحول دون رقمنة خدماتها الحكومية والاقتصادية1.

ومن جانب آخر، أصبحت الخوارزميات الرقمية عنصرًا حاسمًا في حجب المعلومات. فخوارزميات شبكات التواصل الاجتماعي صُمِّمت لعرض المحتوى وفقاً لتفضيلات المستخدمين، مما يؤدي إلى تكوين دوائر صدى (echo chambers) معلوماتية تقطع تدفق الآراء المتنوعة. ونتيجة لذلك، يتم الترويج للمحتوى الجدلي أو المثير بسرعة أكبر، ما ينشر المعلومات المضللة بقوة قبل أن يتم تصحيحها. وقد وقف العالم على مثال مروّع لذلك عبر مساهمة خوارزمية فيسبوك في نشر معلومات مناهضة لأقلية الروهينجا، مما سهل ارتكاب أعمال عنف ضدهم. والأهم أن فهم آلية هذه الخوارزميات ليس موحداً بين الشعوب؛ فغالباً ما تفتقر فئات من الجمهور إلى المعرفة الخوارزمية اللازمة لمساءلة ما يعرض عليهم. وبغياب هذه المعرفة، تصبح بعض الجماعات أكثر عرضة للاعتقاد غير المبرَّر في محتوى خاضع لتصفية الخوارزميات دون نقده، مما يفاقم من صعوبة مواجهة التضليل.

إضافة إلى ذلك، لعبت السياسات الرقابية الإلكترونية دوراً محورياً في حجب المعلومات عبر الحدود. فقد شهدت السنوات الأخيرة تزايد رقابة دولية على شبكات الإنترنت تزامن مع ضغوط سياسية. على سبيل المثال، أظهر تقرير لهيومن رايتس ووتش أن السنوات العشر الأخيرة في الصين تميزت بـ"تكثيف الرقابة على الإنترنت، وتوسيع الدعاية، وتضخيم المراقبة"، مما حوّل الخطاب العام وعزّز النزعات القومية وأفسح المجال لتقسيم الفضاء الرقمي العالمي. وعلى المستوى المؤسسي، يضطرّ فيسبوك وبقية المنصات إلى مراقبة المحتوى استجابة لسياسات نشر صارمة أو ضغوط حكومية لمنع تداول "المحتوى غير المرغوب". وهكذا، ترفع كل دولة جداراً رقمياً خاصاً بها أو تفرض حدوداً على التبادل المعلوماتي، بحيث بات من الواضح أن الإنترنت الرسمي قد ينقسم إلى مناطق متحكَّم بها قضائياً وبنيةً تحتيةً، ما يهدد حرية التواصل الدولي ومبدأ عالمية الشبكة الإلكترونية.

أما في ميدان النزاعات، فقد أضحى الحرب السيبرانية امتداداً جديداً لحرب الدولة ضد الدولة. فالهجمات الإلكترونية لم تَعُد تقتصر على تعطيل البنى التحتية وحدها (مثل تعطيل شبكات الكهرباء أو الاتصالات عبر إنزال برمجيات خبيثة في نقاطها الحساسة)، بل تترافق أحياناً مع عمليات نفسية ودعائية. فالعديد من الدول باتت تعتبر الفضاء الرقمي حلبةً للحرب النفسية والمعلوماتية، إذ تستخدمه في شن حملات تضليلية تهدف إلى زرع الشكوك بين سكان العدو وتقويض شرعية خصومها. وعليه، تم إدراج الهجمات السيبرانية في استراتيجيات الأمن القومي بوصفها "مكوّناً أساسياً" من فنون الحرب الحديثة، ينقل المعارك من الجبهات المادية إلى الفضاء المعلوماتي السيبراني.

ولا تفصل وسائل التواصل الاجتماعي بين هذه العوامل بل تعززها أحياناً: فهي من جهة تمثل منصات عالمية تبسط إمكانيات التبادل الثقافي والسياسي بين شعوب الأرض، لكنها من جهة أخرى أدّت إلى انفلات نشر المعلومات المضللة وإفراطها. فأصبحت معظم المجتمعات تعتمد على حسابات مسؤولين وشخصيات عامة على تويتر وفيسبوك كمصادر رئيسية للأخبار والتوجيهات الجماهيرية. ومع انتشارها هذا، تفشت ظاهرة "الأخبار الزائفة"، حيث تستخدم الحسابات الضخمة قنوات التواصل لنشر روايات ملفقة دون تدخل رقابي تقليدي. وقد أشارت دراسة إعلامية حديثة إلى أن هذا الواقع يؤثر في مصداقية الإعلام التقليدي، ويُبقي الصحافة المهنية في موضع دفاعي لمعالجة التقويض الناجم عن التضليل الرقمي. بعبارة أخرى، فإن الثورة التكنولوجية التي تقلل الحواجز المكانية أفرزت في المقابل أشكالاً جديدة من الحواجز المعرفية والسياسية في التواصل الدولي، ما يفرض على الفاعلين الدوليين بناء استراتيجيات للتمكين الرقمي وتعزيز المرونة المعلوماتية والتعاون عبر الحدود للحيلولة دون تقويض الحوار العالمي.

التغير التاريخي في طبيعة عوائق التواصل:

طبيعة عوائق التواصل في القرن التاسع عشر:

كان التواصل الدولي في القرن التاسع عشر رهنًا بالمسافات الشاسعة ووسائل النقل التقليدية البطيئة. قبل اختراع التلغراف، كانت المعلومات تنتقل بسرعة سفينة شراعية أو حصان، أي أنها ارتبطت بزمن الإبحار والخيول. على سبيل المثال، كان إرسال رسالة دبلوماسية من اليابان إلى بريطانيا وإرجاعها يستغرق أكثر من أربعة أشهر ذهاباً وإياباً، مما يبرز بطء الاتصال عبر المحيطات. هذه المؤشرات التاريخية تشير بوضوح إلى أن اعتماد الرحلات البحرية لمسافات طويلة وغياب وسائل نقل أسرع جعل أي رسالة دولية تتأخر أسابيع أو أشهر قبل أن تصل إلى وجهتها.

علاوة على كل ذلك، كانت وسائل المراسلة الرسمية بطيئة بطبيعتها. فالرسائل الدبلوماسية والمراسلات الحكومية كانت تُنقل أساسًا عبر البريد البحري أو البري التقليدي، وهما وسيلتان يستغرقتا وقتًا طويلاً.

إضافة إلى ذلك فقد كانت دوافع الأمن القومي والسرية السياسية تزيد من تعقيد نقل المعلومات بين الدول. فقد حرصت الحكومات على الحفاظ على سرية المفاوضات الدبلوماسية، فكانت كثيرًا ما تفرض رقابة على الرسائل أو تلزم الدبلوماسيين بالحفاظ على أسرارهم. فعلى سبيل المثال، في مؤتمر التلغراف الدولي عام 1865 أصرّ ممثلو روسيا وبروسيا على أن للدولة حق فرض رقابة على محتوى المراسلات بحجة حماية الأمن العام، وهو ما رفضته الولايات المتحدة حينها. مثل هذه التدابير السياسية -- سواء بحالة السلم أو التوتر الدولي -- كانت تُبطئ دائماً من انسياب المعلومات لأنها تعرقل نشر الأخبار الدبلوماسية وتعطل الثقة المتبادلة في سرعة وشفافية الاتصالات الحكومية.

كان دور وسائل الإعلام الجماهيرية في القرن التاسع عشر محدودًا مقارنة بما سيأتي لاحقًا. فقد انحصرت وسائل النشر في المقام الأول بالصحف المطبوعة، والتي برغم انتشارها الواسع في نهاية القرن ظلت تعتمد خطوطًا محلية وتتحيز لمعانٍ سياسية داخلية. وحتى مع نشوء بعض وكالات الأنباء الدولية (مثل رويترز وهافاس) في منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن شبكات الأخبار العالمية قد اكتملت بعد. لذلك لم يكن بالإمكان الاعتماد على الإعلام لنشر الخبر العابر للحدود بسرعة؛ فضلاً عن عدم وجود إذاعة أو تلفاز دولي، مما جعل الضغوط الإعلامية وتأثير الرأي العام العالمي على السياسات الدولية أمراً محدوداً جداً في ذلك العصر.

سبل تجاوز عوائق التواصل:

إذا كانت العوائق تتنوع بتعدد السياقات التاريخية والثقافية، فإن سبل تجاوزها يجب أن تكون مرنة وشاملة، تأخذ في الاعتبار طبيعة كل عائق وخصوصيته. فالعوائق اللغوية تتطلب حلولاً تختلف عن تلك المطلوبة لمواجهة التحديات التقنية الحديثة، كما أن العوائق النفسية تحتاج لمعالجة تختلف عن تلك المطلوبة للتعامل مع التحيز الإعلامي.

في هذا الإطار، تبرز أهمية تطوير نظام متكامل للتغلب على هذه العوائق، نظام يجمع بين:

تعزيز الآليات التقليدية والتدخل البشري

على الرغم من التقدم التكنولوجي، تظل الترجمة البشرية المُحكمة أحد أهم أدوات تجاوز العوائق اللغوية في العلاقات الدولية. يعتمد نجاح هذا النهج على توظيف مترجمين محترفين متخصصين في المجال الدبلوماسي، مع إدراكهم للسياقات الثقافية والسياسية للغات التي يعملون عليها. فعلى سبيل المثال، تعتمد الأمم المتحدة على شبكة من المترجمين المعتمدين الذين يخضعون لتدريبات مكثفة على مصطلحات القانون الدولي والسياسة الخارجية، مما يقلل من احتمالية سوء الفهم الناجم عن الترجمة الحرفية.

كما تلعب اللغات الوسيطة، مثل الإنجليزية والفرنسية، دوراً حيوياً في تسهيل التواصل بين الدول التي لا تشترك بلغة واحدة. وقد أدت المؤسسات الدولية، مثل منظمة الفرنكوفونية، دوراً رئيسياً في تعزيز هذه اللغات كجسور للتفاهم عبر الحدود.

وتظل الدبلوماسية التقليدية القائمة على اللقاءات المباشرة والتفاعل الشخصي بين الممثلين الرسميين أداة لا غنى عنها لتجاوز العوائق النفسية والثقافية. ففي عام 1985، نجح مؤتمر جنيف بين الرئيسين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف في تخفيف حدة التوتر النووي خلال الحرب الباردة، وذلك بفضل جلسات الحوار المطول وجهًا لوجه، والتي سمحت ببناء جسور من الثقة المتبادلة.

كما يمكن لوسائل الإعلام الدولية المحايدة أن تلعب دوراً محورياً في تجاوز العوائق الإعلامية. وتُعد وكالات أنباء مثل "رويترز" و"الأسوشيتد برس" نماذج ناجحة لتغطية إخبارية متوازنة تخفف من حدة التحيز الإعلامي. كما أنشأت بعض الدول قنوات إعلامية مخصصة للتواصل الدولي، مثل "روسيا اليوم" و"دويتشه فيله"، التي تقدم محتوى بلغات متعددة لتعزيز التفاهم المتبادل.

التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي

في عصر العولمة الرقمية، أصبحت التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي أدوات حيوية لتجاوز عوائق التواصل في العلاقات الدولية. تُسهم هذه الأدوات في معالجة المشكلات اللغوية والنفسية والتقنية، مما يعزز التفاهم المتبادل ويقلل من فرص سوء الفهم. على سبيل المثال، تُستخدم أنظمة الترجمة الفورية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مثل "ChatGPT" و"DeepL"، لتحقيق التواصل الفوري بين الأطراف الناطقة بلغات مختلفة، مما يقلل الاعتماد على المترجمين البشريين ويحد من الأخطاء الناجمة عن الترجمة اليدوية2.

أحد التطبيقات الواعدة للذكاء الاصطناعي في مجال التواصل الدولي هو تحليل المشاعر (Sentiment Analysis)، حيث تُستخدم خوارزميات متقدمة لتحليل النبرة والعواطف في الخطابات الدبلوماسية أو وسائل الإعلام. يمكن لهذه التقنيات أن تكشف عن التحيزات الخفية أو النوايا العدائية في الرسائل، مما يتيح للدول اتخاذ إجراءات استباقية لتجنب التصعيد. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أن الذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ بالتوترات السياسية بناءً على تحليل خطابات القادة، مما يساعد في توجيه الجهود الدبلوماسية نحو منع النزاعات.

وفي مواجهة انتشار المعلومات المضللة (Disinformation) عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة حاسمة للكشف عن المحتوى الزائف. تُستخدم تقنيات مثل التعلم العميق (Deep Learning) لتحليل أنماط نشر الأخبار الكاذبة وتحديد مصادرها. على سبيل المثال، طوّرت شركة "Factmata" خوارزميات قادرة على تحليل الآلاف من المنشورات في ثوانٍ لتحديد تلك التي تحتوي على مضامين خادعة. كما تعتمد بعض الحكومات على أنظمة الذكاء الاصطناعي لمراقبة التدفق الإعلامي العالمي والاستجابة السريعة للمعلومات المضللة التي قد تؤثر على العلاقات الدولية.

لكن مع ذلك وعلى الرغم من التقدم الكبير في قدرات نماذج لغات البرمجة الكبيرة (LLMs)، تبرز ظاهرة الهلاوس (hallucinations) كأحد أبرز العيوب التي قد تبرز في استخدام الذكاء الاصطناعي للتخفيف من وطأة عوائق التواصل في تحسين العلاقات بين الدول؛ فهي تشير إلى توليد محتوى يبدو لغويًا ومنطقيًا مقنعًا، لكنه في الواقع غير صحيح أو مُلفق، ما يُشكّل تحديًا جدّيًا في المواقف التي تتطلب دقة معلوماتية عالية مثل المؤتمرات أو المُفاوضات. وتُعزى هذه الظاهرة إلى محدوديات أساسية في بنية النماذج؛ فهي تعتمد على التنبؤ الاحتمالي للكلمة التالية دون تحقق معرفي من الواقع، ويُظهر بحث حديث أنه من المستحيل القضاء على هذه الهلاوس نهائيًا، لأنها ناتجة عن القيود النظرية في نظم التعلم الآلي نفسها، وليس فقط من أخطاء في البيانات.

كما تُظهر مراجعة شاملة لعام 2023 أن الهلاوس لا تقتصر على نموذج لغوي واحد، بل تُصنّف ضمن فئات متعددة تشمل فقدان الاتصال بالمصادر، خلق بيانات رقمية أو جغرافية زائفة، ومحتوى عديم الأساس وغير منطقي بالمرة3.

الخاتمة:

يخلص البحث إلى أن عوائق التواصل في العلاقات الدولية تنشأ من تفاعل معقد بين عوامل لغوية ونفسية وتقنية وإعلامية. فالعوائق اللغوية لا تقتصر على مشكلات الترجمة فحسب، بل تشمل أيضاً الاختلافات الدلالية والثقافية التي تجعل من الصعب نقل المعنى بدقة بين اللغات والثقافات. كما أن تعدد تفسيرات المفاهيم والمصطلحات السياسية، خاصة في السياقات الدبلوماسية الحساسة، قد يؤدي إلى سوء فهم جوهري للرسائل والمواقف. وقد ظهر ذلك جلياً في الحالات التاريخية التي تم تحليلها، حيث أدت الأخطاء اللغوية إلى تصعيد التوترات أو إطالة أمد النزاعات.

من جهة أخرى، تبرز العوائق النفسية كعامل حاسم في تشويه عملية التواصل الدولي. فالصور النمطية والتحيزات المعرفية تؤدي إلى تفسير الرسائل من خلال عدسات مسبقة، مما يعيق الفهم الموضوعي. كما أن العوامل الشخصية مثل أساليب القيادة ودرجات الثقة بين الأطراف تلعب دوراً محورياً في نجاح أو فشل المحادثات الدبلوماسية. وفي العصر الرقمي الحالي، تظهر تحديات جديدة تتمثل في انتشار المعلومات المضللة عبر وسائل الإعلام الرقمية، واستخدام التقنيات الحديثة كأدوات للحرب النفسية والسيبرانية، مما يضيف طبقات إضافية من التعقيد لعملية التواصل بين الدول.

الهوامش:


  1. Headrick, D. "The Invisible Weapon: Telecommunications and International Politics". Oxford: Oxford University Press, 2019. 

  2. القحطاني، ناصر. "الدبلوماسية الرقمية". أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات، 2022، ص 55-68. 

  3. Xu, Ziwei, Sanjay Jain, and Mohan Kankanhalli. 2025. "Hallucination Is Inevitable: An Innate Limitation of Large Language Models." arXiv. https://doi.org/10.48550/arXiv.2401.11817.